محمود باجس
في إحدى مراحل الدراسة طرح سؤال للنقاش وهو الذي جعلني أقف مع نفسي لوهلة وهو "هل يمكن للمشاريع الصغيرة أن تشكل دخل اقتصادي يعيل عدد كبير من العائلات في الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني" كان جوابي في تلك اللحظة سطحي وغير مبني على أدلة دقيقة، وهو أنه لا يمكن أن يحصل ذلك البتة. بعد ذلك النقاش، وبعد فترة زمنية قصيرة انضممت لإحدى التدريبات الخاصة بصنع مرشدي الأعمال الشباب للمشاريع الصغيرة مع مؤسسة ابتكار، وقد شدني الفضول للانضمام لتكوين معرفة أكبر حول هذا الموضوع. في أول أيام التدريب بدأت تتبلور لدي افكار جديدة، وخبرات لم أمتلكها من قبل حول المشاريع الصغيرة، وهي أن المشاريع بصفة عامة لا تتعلق براس المال مع أنها من الممكن أن تكون ركيزة أساسية للشركات الكبيرة. بقدر أنها بحاجة لمدى الابداع والقدرة على الترويج والايمان بالفكرة وطرق التواصل الصحيحة مع الزبائن في حالة المشاريع الصغيرة. وبذلك تمكننا المشاريع الصغيرة من إعالة كافية لصاحبة المشروع وعائلاتها، وتشكيل دخل إضافي إذا تم إتمام خطوات إنشاء المشروع بشكل صحيح.
في بداية الأمر لم يكن لدي معرفة بأنني سأستطيع تحمل هذه المسؤولية وسأحصل على هذه الفرصة للعمل كمرشد أعمال للمشاريع الصغيرة، وإنما كانت لدي تلك النظرة المتوقعة من معظم المؤسسات أنني فقط سأحصل على التدريب وسأكتفي بذلك. لكن بعدها أدركت أن شعار مؤسسة إبتكار مرتبط برؤيتها وبحقيقة عزمها بتمكين الشباب ليس فقط مجرد شعار تتغنى به. فقد منحتنا مؤسسة إبتكار الفرصة للعمل في المجال وليس الاقتصار على التدريب، وهذا كان استثنائي بالنسبة لي وحرك لدي العزيمة لإنجاح المشروع الذي علمت أن سيحقق نقلة نوعية بداخل المجتمع الفلسطيني، بكونه فرصة حقيقة لتمكين الشباب وخلق فرص عمل قادرة على تغيير حياة المتدرب وسيدات المشاريع الصغيرة.
بعد إثرائنا بالمعلومات القيمة في التدريبات تمكنا من استخدام تلك المعلومات والمعرفة في العمل مع السيدات. بدأنا في أول مراحل الرحلة مع السيدات بالتعرف على شخصياتهن، وأفكار مشاريعهن، وطموحاتهن، وخبراتهن. وقد اعتمدت تسمية هذه العمل بالرحلة لما احتوته من تجارب جديدة لنا كمرشدي أعمال وللسيدات صاحبات المشاريع والتي احتوت على صعوبات، وتعاون وعمل وكانت كفيلة بتغييرات جذرية في شخصياتنا وإيماننا ومعرفتنا للأفضل. تضمنت الرحلة الفرح والحزن، والانتظار والوصول وأيضاً الفشل والنجاح. كما تضمنت التنسيق والاتصال، والربح والخسارة في طريق الوصول إلى بر الأمان. وهو بمثابة النجاح للمشاريع ووضعها على طريق الأمان والاستدامة للمشاريع بمعرفة وخبرة وتمكين لصاحبات المشاريع.
أدركت خلال العمل أن فحوى المشاريع الصغيرة تعكس الصورة الأكبر للمجتمع الفلسطيني، وسوف أسرد بعض من مقتطفات المشاريع التي قمت بتوجيه وإرشاد صاحباتها.
المشروع الاول وهو "دربة" بيت الضيافة، هذا المشروع يعمل ضمن منطقة "ج" بالقرب من أحد المستوطنات داخل قرية يحاول الاحتلال جاهداً تهجير أهلها بكافة الطرق والوسائل. يأتي هذا المشروع ضمن آلية تعمل على تمكين ودعم صمود عائلة كاملة بداخل القرية، وتعمل جاهدة لرفع الوعي حول الظروف التي تعيشها القرية على المستوى المحلي والدولي. يأتي بيت الضيافة كصرخة فلسطيني صامد لا يأبه بالظروف، بل ويسعى جاهداً إلى تغيرها. تمكن بيت الضيافة أن يلفت انتباه أصحاب القرار بمحاولة لإصلاح البنية التحتية لأهل القرية، لكي يتمكن الزوار من الوصول إلى القرية، ومن هنا يأتي المشروع كطريقة لسرد صمود الفلسطيني على أرضه.
المشروع الثاني "كمشة خيطان" مشروع بدأ عن طريق حب التطريز الذي طالما كان ثقافة فلسطينية سائدة بين السيدات الفلسطينيات. مشروع بدأ بهواية حتى وصل للإدراك بالمهارات وحب المجتمع الفلسطيني للتمسك بتلك الهوية. يعكس المشروع المواهب المرتبطة بالثقافة التي نحاول أن نعكسها قدر الإمكان. تمكنت صاحبة المشروع بإيجاد نفسها داخل هذا المشروع الذي يعكس شغفها وحبها للعمل، وكأنه المساحة الأمنة التي تجد نفسها بداخله بعيداً عن ضجة الحياة من حولها.
المشروع الثالث "مكدوسي" سيدة تحب الطهي وتقديم الطعام بمحبة للآخرين، كما اعتدنا دائماً على تقديم الطعام للآخرين بمحبة داخل المجتمع الفلسطيني. صاحبة مشروع مكدوسي سيدة تعتز بتقديمها طعام قامت بتعلمه من عائلتها مسبقاً، وتحاول إبقاء بعض الأكل التراثي موجود على المائدة الفلسطينية حتى لا ننساه أبداً. الأكلات الفلسطينية التي لطالما كانت تعكس تراثنا المتميز خاصة لأشخاص من خارج البلاد.
في رحلة العمل واجهتنا مشاكل عديدة، ولكن فريق مؤسسة إبتكار كان معنا على طول الطريق يمدنا بخطوات العمل الصحيحة، والسماع للمشاكل ومحاولة إيجاد الحل بشكل سريع لتصحيح مسار سير العمل، وجدنا دائماً من يسمعنا ويقدم لنا النصيحة المثالية للعمل الأمثل، ولتحقيق الهدف الأسمى وهو النهوض بالمشاريع الصغيرة وبأصحابها. كنا دائماً مستنيرين بطريقة العمل وبخطة العمل، وبالتوجيهات التي يجب السير عليها، حتى وصلنا لدرجة الوعي الكامل بكافة التفاصيل المتعلقة بالعمل. وفي خضم هذه الرحلة من التعلم والتعليم، تمكنا من الوصول إلى نتائج لم تكن متوقعة لنا كمرشدي أعمال للمشاريع. فقد استطعنا تقديم نظرة شاملة لسيدات المشاريع الصغيرة على الطريق السليم الواجب السير عليه للوصول إلى النتائج المرضية. لقد لامسنا التغييرات التي حدثت على مستوى العمل من خلال التطوير المستمر على مواقع التواصل الاجتماعي لدعم الترويج، عملية التسويق الصحيحة والوصول للعميل المثالي، وتحديد الأهداف الواضحة للمشروع، طريقة التصوير المثالية، وعمل دراسة عن المنافسين. كل ذلك كون نظرة مثالية للسيدات عما يجب وما لا يجب عمله وكيفية النهوض بالمشاريع وتطويرها.
على المستوى الشخصي مكنتني هذه التجربة من فهم عميق لماهية المشاريع الصغيرة، ومدى تأثيرها الإيجابي على المجتمع ككل. كما تغيرت نظرتي وأفكاري عن المشاريع الصغيرة، وأصبحت إجابتي على السؤال المطروح في السابق وهو "هل يمكن للمشاريع الصغيرة أن تشكل دخل اقتصادي يعيل عدد كبير من العائلات في الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني"، نعم ممكن وخاصة بوجود مشروع تمكين كالذي تقدمه مؤسسة إبتكار للنهوض بالمشاريع الصغيرة وتمكينها.